الاخبار

العراق.. نجاح دبلوماسي في استعادة الآثار المنهوبة وإعادة إحياء المدن التاريخية

– محمد الطالبي

تحرير خضير الزوبعي

العراق يمثل متحفاً كبيراً للتاريخ”، وهذا تحديداً الوصف الذي أطلقته بعثات التنقيب الآثارية، التي تتوافد منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا، فالحضارات التي عمرت هذه البقعة من الأرض خلفت وراءها أبنية ومدونات وقصور ومعابد، وكانت بمثابة تجسيد لفترات زمنية متعاقبة.

أسهمت هذه الحضارة في صناعة جزء من تاريخ البشرية الضارب في عمق الحضارة الإنسانية، فأرض بلاد الرافدين التي عرفت على مر العصور بغناها وأصالة حضاراتها، كانت مسرحاً للعديد من الصراعات والنزاعات التي خلفت مجموعة مهولة من المعالم والمواقع الآثارية.

وقال مدير هيئة الآثار في وزارة الثقافة علي شلغم ل: إن “‏عدد المواقع الآثارية المسجلة في سجلات الهيئة العامة للآثار والتراث في العراق يبلغ 15.000 موقع”، وأضاف أن “هذا العدد قابل للزيادة، لأن الكثير من المناطق في أغلب محافظات العراق، وخاصة المواقع التي تحاذي إقليم كردستان، يوجد فيها مواقع عسكرية لا يمكن لخبراء الآثار دخولها لغرض المسح وتوثيق هذه المواقع، والحال نفسه في صحراء محافظة الأنبار، بينما تتركز معظم المواقع الآثارية في محافظات الوسط والجنوب، إضافة الى محافظة الموصل، وفيها أربع عواصم آشورية“.

ويمثل ملاحقة جرائم سرقة وتهريب الآثار تحدياً كبيراً للجهات الرسمية العراقية، خصوصاً وأن تلك الجرائم تتم عن طريق شبكات دولية، وفقد العراق جراء تلك الجرائم الكثير من القطع الآثارية التي سرقت من المتاحف أو المواقع الآثارية بعد العام 2003، وعن هذا الأمر أوضح شلغم أن “المتحف العراقي تعرض في 2003 وما بعدها الى هجمة كبيرة، حيث سرقت ونهبت الكثير من القطع الآثارية الموجودة فيه، وفي المتاحف الأخرى بالمحافظات العراقية مثل الموصل، غير أن العراق نجح في استرداد 90% من الآثار المنهوبة بجهود كبيرة من قبل وزارة الثقافة والسياحة، والهيئة العامة للآثار والتراث، يدعمها في ذلك جهود وزارة الخارجية وسفاراتها الموجودة في دول العالم المختلفة، بالاستعانة بجهود الشرطة الدولية (الانتربول)“.

وأشار شلغم الى أن “فترة غياب الأمن التي تلت سقوط النظام السابق تعرضت فيها المواقع الآثارية أيضاً إلى هجمة من قبل سراق الآثار، من خلال أعمال حفر غير مشروعة، ولا تتوفر قاعدة بيانات بعدد القطع الآثارية التي هربت من تلك المواقع وأنها“.

وعد المشرع العراقي “جريمة سرقة الآثار من الجرائم الخطيرة التي تهدد إرث البلاد الحضاري، حيث وضع المشرع في المادة 40 من قانون الآثار والتراث رقم 55 لسنة 2002، عقوبات صارمة تتراوح بين السجن لمدة لا تقل عن 7 سنوات ولا تزيد عن 15 سنة، مع تعويض مقداره 6 أضعاف القيمة المقدرة للآثار أو المادة التراثية في حالة عدم استردادها“.

وقال مدير شرطة حماية الآثار والتراث اللواء خالد تركي ل: إن “شرطة الآثار تركز في عملها على رفع التجاوزات عن المناطق الآثارية والتراثية، والحد من عمليات نبش المواقع الآثارية وسرقتها في جميع مناطق البلاد باستثناء إقليم كردستان”، مضيفاً أن “واجبات ‏مديرية شرطة حماية الآثار والتراث تشمل أيضاً توفير الحماية لجميع المواقع الآثارية والمتاحف، ومرافقة بعثات التنقيب العربية والأجنبية والعراقية“.

 

تاريخ التنقيب في العراق

تناولت العديد من البحوث والدراسات الاكاديمية تأريخ عمليات التنقيب في بلاد وادي الرافدين، حيث كانت البداية منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى العام 1920، وتتميز هذه المرحلة بعمليات تنقيب اعتمد فيها المنقبون أساليب بدائية مثل المعاول والمجارف في مواقع أور وبابل وآشور، وكانوا يركزون في معظمها على نبش الآثار بطريقة تؤدي أحياناً الى تخريبها بهدف استخراج القطع الآثارية وتهريبها من أجل بيعها والتربح من أثمانها، تليها المرحلة الثانية الممتدة من عام 1920 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت فيها أساليب التنقيب أكثر تطوراً، واتسعت لتشمل مناطق واسعة من العراق، أما المرحلة الثالثة فتبدأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومستمرة حتى يومنا هذا.

ويعتبر البريطانيون أول من قام بالتنقيب في العراق، تلاهم الفرنسيون والألمان، ومن ثم بعثات التنقيب الاميركية، وجميع تلك البعثات كانت تحتفظ بمكتشفاتها الآثارية وتنقلها الى متاحف بلدانها، وبعد قيام الحكم الملكي في العراق وتشكيل حكومة تراعي مصالح البلاد، كثرت المطالب بالحفاظ على تاريخ وحضارة العراق ومنع عمليات النهب فيها، وحينها شرعت الحكومة نص قانون عرض على البرلمان، وكان من بين بنوده أن من حق إدارة الآثار العراقية الاحتفاظ باللقى الآثارية المكتشفة إذا كانت قطعة واحدة فقط، وإذا كانت أكثر من ذلك يمكن توزيعها على المكتشفين، وقاد هذا التشريع لاحقاً لتأسيس المتحف الوطني العراقي.

وأوضح المتخصص في مجال الآثار حاكم الشمري ل أنه “بالرغم من كل حملات التنقيب التي قادها مستشرقون وعلماء آثار غربيون على مدى قرون مضت، إلا أن العراق ما زال فيه عدد كبير من المواقع الآثارية غير المنقبة وغير المكتشفة بعد، فحضارة وادي الرافدين الممتدة من شمال العراق إلى جنوبه تشير الاحصائيات الى أن عدد المواقع المكتشفة فيها يمثل 12% فقط،   وتوجد في كل محافظة عراقية تقريباً مواقع آثارية مكتشفة، وجرى التنقيب فيها، وأخرى غير مكتشفة بانتظار من يزيل ركام التاريخ والطبيعة عنها بحثاً عن ملاحم وكنوز ضائعة“.

 

آثار العراق على لائحة التراث العالمي

يضم العراق العديد من المواقع الآثارية المدرجة على لائحة منظمة “اليونسكو” للتراث العالمي، حيث انضم العراق إلى معاهدة مواقع التراث العالمي في الخامس من آذار عام 1974 ما جعله مؤهلاً لإدراج مواقعه التاريخية على القائمة، ويمتلك اليوم 6 مواقع مصنفة كتراث عالمي، وتعد مملكة الحضر أول موقع أدرج على لائحة التراث العالمي، في الدورة التاسعة للجنة التراث العالمي، التي عُقدت في باريس عام 1985، تلى ذلك إدراج آشور (القلعة الشرقية) في عام 2003 كموقع ثان، ومن ثم إدراج مدينة سامراء الأثرية العام 2007، وأضيفت قلعة أربيل، وأهوار جنوب العراق في عامي 2014 و 2016، ولاحقاً في 2019 أضيف موقع بابل الآثاري التاريخي إلى القائمة.

 

إحياء روح الموصل

الموصل ثاني أكبر مدن البلاد، والزاخرة بموروثها التاريخي والحضاري، عانت تدميراً غير مسبوق على يد عناصر داعش الإرهابية لمواقعها الآثارية في مدينتي نينوى والنمرود التاريخيتين، فضلاً عن الدمار الذي لحق بمتحفها الذي يضم آثار وتماثيل بعضها من نمرود وأخرى من مدينة الحضر الآثارية.

ولعل مشهد تدمير الآثار في متحف الموصل الحضاري، وكذلك المواقع الاثارية ، أعطى العالم فكرة أنه لم تبق آثار في المدينة، لكن هذا الأمر قد يكون مقصوداً من قبل عصابات داعش الإرهابية في حينها، للتغطية على عمليات سرقة ونهب الآثار العراقية من أجل بيعها وتمويل النشاطات الإرهابية للتنظيم المتطرف، وهذا ما أكدته الوقائع بعد تحرير المدينة لاحقاً، حيث سجلت الجهات الرسمية اختفاء كثير من القطع الاثارية النفيسة ولم يعرف مصيرها بعد، وعثر على عدد آخر مخبأ في مواقع كانت تابعة للتنظيم الإرهابي.

وعمدت عصابات داعش الإرهابية أيضاً الى تفجير مرقد النبي يونس، وحفر التل الذي كان مشيداً عليها، حيث وجد لاحقاً عمليات نبش لمواقع آثارية في داخل التل، كما تم تدمير جامع النوري الشهير ومئذنته الحدباء.

وفي العام 2018 أطلقت مبادرة “إحياء روح الموصل”، وشرعت الحكومة العراقية بالتعاون مع اليونسكو، بإعادة بناء المعالم الثقافية والتاريخية في الموصل.

وقال محافظ نينوى عبد القادر الدخيل ل، إن “الحكومة الاتحادية، برئاسة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، تقدم دعمًا مباشرًا لإعادة إعمار المدينة”، مشيرًا إلى أن “هذا الدعم يشمل مختلف القطاعات، ومنها القطاع الثقافي والتراثي“.

وأوضح الدخيل، أنه “تم استكمال إعادة بناء مئذنة الحدباء وجامع النوري وكنيسة الطاهرة في حوش البيعة، إضافة إلى كنيسة الساعة ودور الراهبات، كما تم الانتقال إلى ترميم مناطق أثرية أخرى مثل محلة الشهوان ومحلة الأقليعات ومحلة الميدان، وذلك في إطار أحد أكبر المشاريع التراثية والسياحية في الموصل“.

وأشار الدخيل إلى أن “المرحلة الجديدة من الإعمار تشمل إطلاق ثلاثة مشاريع رئيسة في المدينة القديمة، تتلخص بإعادة تأهيل قلعة باشطابيا، حيث ستخضع لدراسات تحليلية لتحديد متطلبات إعادة إعمارها، وتحويل مبنى البارود خانة إلى متحف ومكتبة، وذلك ضمن مشروع يهدف إلى تعزيز الهوية الثقافية للمدينة، بالاضافة الى إعادة تأهيل حمام القلعة وتحويله إلى مطعم يحمل الطابع الموصلي الأصيل، بالتنسيق مع منظمة اليونسكو“.

واختتم الدخيل حديثه بالتأكيد على أن “هذه المشاريع تمثل خطوات مهمة في إعادة إحياء التراث الموصلي وترسيخ الهوية الثقافية والتاريخية للمدينة“.

 

الحدباء من جديد منارة للموصل

بعد الانتهاء من إعماره مع مئذنته (الحدباء) عاد جامع النوري ليكون من جديد رمزاً للموصل كما كان على مدار قرون، وأكدت اللجنة الآثارية المشرفة على إعادة إعمار جامع النوري، أنها قررت إعادة بناء المئذنة على القاعدة التي كانت لا تزال قائمة وقد تضررت بشدة، واستخدمت لذلك المواد القديمة ونفس القطع الأصلية من طابوق المئذنة التي فجرتها عصابات داعش الإرهابية في عام 2017.

وقال رئيس اللجنة منقب الآثار عبد الله محمود ل: إنه “جرى الحفاظ على أثرية المئذنة وتراثيتها من خلال استعمال القطع الأصلية من الطابوق وبنفس مواد المونة المستعملة سابقاً، كما حافظنا على ميلانها وعلى تفاصيلها الدقيقة كالزخارف الهندسية المنفذة على بدن المئذنة، وعودة المئذنة هي عودة الروح الى الموصل لأنها تعبر عن هوية المدينة“.

بدوره قال مهندس موقع اليونسكو مصطفى خالد الديواني ل: إن “إعادة إعمار جامع النوري من قبل منظمة اليونسكو جرت بالتعاون مع مفتشية التراث والآثار والوقف السني في نينوى، وتم إدراج القطع الأثرية الموثقة والتي تم الحصول عليها من داخل الموقع، وهي ما تقارب من 25 ألف قطعة أثرية من جسم المئذنة، واستعملنا مزيجاً من الطرق القديمة والحديثة في إعادة إعمار المئذنة بأساس جديد يحافظ على الهوية التراثية المعمارية للمئذنة”. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى